كنت في غرفتي التي تناثرت في أرجائها أوراق المحاضرات بعد أن انتهى آخر أيام الاختبارات .. جلست على مكتبي أداعب دمية أختي الصغيرة وأمرر أناملي بين شعيرات جسدها الناعم ..
تأملت حولي .. يا لهذا الكم الهائل من الأوراق !! يلزمني أسبوع حتى أرتبها وأصنفها !! لكني اشعر بالتعب الآن .. بل اشعر بالملل والوحدة بعيدا عن أصدقائي ..
فتحت الدرج أقلب بين أشيائي المتناثرة.. لفتت نظري مذكرة ملونة صغيرة الحجم .. يا إلهي إنها لزميلتي ليلى !! فتحتها وبدأت أقرأ ما بداخلها وأعيد ذكريات المحاضرات المملة التي كنا نعاني منها .. ورقة .. اثنتان .. ثلاثة ... انتهت ؟؟!! ماذا ..؟!! عجيب أمرها !! كانت دائما تحملها معها لكنها لم تكتب إلا ثلاثة أوراق..!! ثم كيف وصلت إليّ؟؟ ، قلبتها .. لم أجد إلا ورقة منفصلة بالية ..!! حاولت قراءة بدايتها (( لحظات قاسية وأنا انتظرك أيها الحبيب ..!!)) ، توقفت ..!! انتابني شعور بالذنب .. فلربما تكون رسالة خاصة ولا يجوز لي قراءتها .. شدني الفضول لمعرفة محتواها .. ومازلت أصارع نفسي حتى قررت الاتصال بها وإخبارها بشأن المذكرة الصغيرة .. إلا أنني لم أجد الرقم ..!!
ارتميت على سريري وأنا أحاول قراءة ما هناك .. رغما عني فلم استطع صبرا .. كانت كلمات بسيطة جميلة أثارت شفقتي .. (( لحظات قاسية عشتها وأنا انتظرك أيها الحبيب .. لكنك لم تلحظ أني هنا .. أتلهف لسماع أخبارك وأحوالك .. واشتاق لأحاديثك .. تكلمني ببرودك المعتاد دون أدنى شفقة منك ولا محاولة حتى لتفهم معاني المحبة التي أكنها لك .. لا شيء جمود !! برود !! وكأنك حجر ناطق !!)) توقفت لحظة .. وتسارعت نبضات قلبي .. ما ذاك الإحساس المخيف الذي شعرت به الآن ؟؟!!!
لالا .. لا اعتقد أنها تقصدني .. شعرت بالخوف من قراءة باقي ما كتب لئلا اكتشف شيئا يؤلمني .. لكني لم استطع إلا المواصلة!! (( نعم .. هذا ما أستطيع وصفك به الآن .. حجر ناطق !! أيعقل ألا يلاحظ الإنسان انجذاب روحا إليه ، ألا تلاحظ لهفتي واشتياقي ؟؟!! ألا تلاحظ إعجابي وتقديري ؟؟!! ما يؤلمني فعلا إن الجميع يلاحظ هذا إلا أنت .. نعم أنت يا من تقرأ كلماتي ..))
قفلت المذكرة بقوة ورميتها بعيدا عني .. شعور قاتل !! ما هذا .. وكأنها تعنيني بكلماتها .. خرجت الى الشرفة لأرى شمس ذلك اليوم تتجه نحو المغيب .. تجهزت وخرجت للصلاة .. وقلبي وعقلي معلق بين حروف ما قرأت!! والفضول يشدني لإكمال بقية الفقرة!! كان الشرود يلفني .. لم أتحدث إلى أصدقاء الحي الذين بدأؤا بمضايقتي ، أما احدهم فقال وهو يغمز بعينه : ((ما الأمر يا صديقي .. يبدو انه يفكر في أمر مهم ..؟! ))، وقال آخر ضاحكا : (( مبارك لك .. يبدو انك وقعت أخيراً يا فولاذي !!)) .. التفتت إليهم بتعجب شديد ولم اجب.. وفي رأسي ألف استفهام عما كانوا يقصدون .. لكن شغلتني الحروف عنهم .. فاستأذنتهم وأسرعت إلى غرفتي ..!!
فتحت الورقة من جديد ..(( أنت يا من تقرأ كلماتي .. أيها القاسي !! أيعقل أن يكون في الدنيا من لا يحس ولا يلاحظ ؟!! أتدري ؟؟ لقد حطمت قلبي بتصرفاتك الأنانية ومزقت إحساسي .. ولا ادري كيف أحبك قلبي !! نعم .. لن تصدق أني أحببتك حقا .. أحببتك حبا لم يحبه إنسان لأحد .. فقد كنت أول من غزا قلبي وملكني .. جذبني إليه كل شيء يخصه !! لكنك لا تعلم شيئا عن هذا ولا ذاك .....)) الصفحة الأخرى فارغة تماما..!! أين بقية الحديث؟؟ يبدو أنها لم تكمل ما بدأت به .. وأحسست بذنب فظيع لقراءتي ذلك دون إذن ، كما دار في رأسي ألف سؤال أخر .. أيعقل أن تقصدني ؟!! لا أظن ذلك فانا لست بتلك المواصفات التي ذكرتها.. وكذلك هي ليست من النوع الذي تفعل مثل هذا!!
ومرت الإجازة الصيفية وأنا أكاد اجن من التفكير بها وبكلماتها .. مرت ثلاثة شهور كثلاثة عقود من الزمن .. تغيرت خلالها طباعي وتصرفاتي .. وبات الكل يشك في أمري .. حتى والدتي بدأت تسألني عما بي .. وهل هناك من أفكر به .. لكني رغم ذلك أنكر ولا أحب الحديث عن الموضوع .!!
اقترب العام الدراسي الجديد وكلي شوق إلى رؤيتها بالرغم أني لا ادري كيف سأفاتحها في الموضوع .. ولا اشعر باني امتلك الجرأة لسؤالها .. فهي حقا انسانة رائعة جدا وأكن لها كل الاحترام والتقدير.. وهاهو اليوم الأول .. تحيات حارة للأصدقاء والكل سعيد ويترقب بحذر ما تطويه الأيام في هذا العام، وأنا ابحث عن ليلى في أرجاء الساحة لأعطيها مذكرتها واعتذر منها .. لكن دون جدوى .. فليلى لم تأت بعد !!
ألقيت بجسدي على احد الكراسي وأنا اشعر بالتعب والأسف لعدم مقابلتها.. كنت أتحرق شوقا إليها طوال الأجازة الصيفية .. فتحت الورقة مرة أخرى وأنا اقرأ من جديد أول كلماتها : ( لحظات قاسية عشتها وأنا انتظرك أيها الحبيب .. ))وقلت في نفسي بتعجب: ((نعم إنها حقا لحظات قاسية من الانتظار .. لكن هل أنا أحبها الآن؟؟!!)) التفت خلفي حين سمعت صدى صوتها تتحدث مع صديقة لها .. نعم إنها هي ..!! شعرت بسعادة غامرة تملأ قلبي .. تظاهرت باني لم الحظها وانشغلت بهاتفي الخاص..
مرت بجانبي ولم تلتفت إلي !! لا اصدق أني شعرت بالبكاء تلك اللحظة !! لكني تمالكت نفسي وناديتها .. ((لوسمحت .. ليلى )) أجابت بصوت ضعيف حزين (( نعم ..؟!)) ، قرأت في عينيها عتاب قاسي .. قلت لها بارتباك واضح : (( هذه مذكرتك ولا ادري كيف وصلت إلي أو متى .. لكني لم استطع صبرا عن قراءتها وخصوصا تلك الورقة ..))
أخذتها مني في قمة اندهاشها وهي تقول : (( شكرا لك .. عن أي ورقة تتحدث ؟؟!!)) أجبتها : (( لحظات قاسية عشتها وأنا انتظرك أيها الحبيب .. لقد كان موضوعا رائعا .. لكنك لم تكمليه ..)) ، قالت بنبرة متأثرة : (( لم يكن لك الحق بقراءتها .. لكن لا بأس فقد كانت في أيد أمينة .. على العموم شكرا لك ..!!))
تسارعت أنفاسي .. لأول مرة اشعر بكل هذا الخوف من فتاة !! وقلت لها : (( أنا آسف جدا .. لم أكن اقصد التطفل .. لكن هل أستطيع معرفة ماهية الموضوع.. من فضلك ؟! فقد شدني فعلا!!))
بدى واضحا على ملامح عينيها ابتسامة ساخرة .. وهي تقول وتسلمني ورقة أخرى : (( هذا بقية الموضوع .. اقرأه واكتب رأيك فيه كي نصدره في العدد الجديد من المجلة الخاصة بنا .. ألقاك في المكتبة إن شاء الله ..)) وأردفت قائلة : (( آه .. شكرا لك على اهتمامك بمذكرتي وحفاظك على الموضوع .. هذه الورقة مهمة جدا .. مع السلامة ))
ذهبت وتركتني في دهشتي .. وقلبي يكاد يتمزق ، وأنا اسأل نفسي .. أكنت أتوهم كل ما حدث؟؟!! أكنت ..؟؟!! يا إلهي اشعر بتعجب شديد وكأن ألف جبل على صدري .. توجهت للمكتبة لأقرأ النهاية التي أهلكت بقيتي ..
(( نعم ..!! لا تعلم .. ولا أريدك أن تشعر بشئ حتى !! فأنا قد تلقيت الدرس التي أرادت الحياة أن تعلمني إياه .. لقد عشت في الوهم والخيال فترة طويلة .. أجهدت نفسي خلالها بكثرة التفكير في شيء ابتدعته وصدقته!! أتدري ماذا تعلمت ..؟؟!! أن أكون واقعية قدر الامكان .. وان أعيش الواقع بعيدا عن الخيال .. لا اقصد أي شيء .. إنما ذلك الخيال الذي يتعذب به الإنسان !! حقا لقد تعذبت كثيرا وأضعت الكثير من الوقت والجهد معك .. أوووو عفوا .. اقصد مع خيالك الوهمي .. لحظات كدت اجن فيها .. فلن ابني بعد الآن شيئا على وهم ولن اصدق السراب .. لقد فهمت الآن كل شيء وسأبدأ من جديد .. صفحة جديدة لن اكتب فيها اسمك ولن ارسم طيفك .. وستبقى ذكرى أليمة عشتها في الماضي .. وحدي في الانتظار .!!)).